لم أسعَ يومًا للتعرّف على الكتّاب الذين أكنُّ لهم مشاعر التّقدير والإعجاب، بل كنتُ أفضّل أن تتكفّل الصدفة بترتيب اللقاء بيننا. وعندها كلّ الاحتمالات واردة، الحبّ، الصّداقة، وربّما اللامبالاة أو التَّجاهل. لكن على أن يتجاوز اللقاء نطاق المجاملات وتبادل العناوين والأوتوغراف.
واحدةٌ من أكثر المصادفات السّعيدة كانت لقائي مع صامويل بكيت، والذي هو أيضًا لا يُعرف بكونه “اجتماعيّ”، صباح أحد الأيّام وبينما كنت على وشك الدّخول إلى مكتب البريد الكائن في شارع دانتون في العاصمة الفرنسيّة باريس، قرّر رجلٌ نحيلٌ طويل القامة أن يخرج من باب المكتب في نفس اللحظة، وعندها غرقنا بعناقٍ عفويّ تبعه اعتذارٌ بصوتٍ أشبه بهمهماتٍ من كلينا. كنت على يقينٍ بأنّه لم يكن لدى بكيت أدنى فكرةٍ عن الشّخص الذي عانقه، أمّا أنا فتابعت طريقي وقد غمرتني سعادة عظيمة لدرجة أنّني لم أجد داعٍ لتقديم نفسي إليه أو افتعال أيّ حديثٍ معه، كتلك الأحاديث التي كنت أجريها معه عادةً عبر كتبه ومسرحياته.
لا أبرّر تصرّفي هذا الذي غالبًا كان يدفع بي نحو تفضيل التّركيز على أعمال الكتّاب وليس على شخصهم.
أحيانًا كنت أعاتب نفسي على فرط الحساسيّة الفكرية، وعندما أفكر ببابلو نيرودا أشعر بالندم، وكالعادة بعد فوات الأوان، لأنّه قُدّر لصداقتنا أن تستمرَّ لمدّة قصيرةٍ جدا، وسط أحداث كارثيَّة في أمريكا اللاتينية، ومع ذلك.. كان بابلو مُتعطّشًا للصداقة وللبحث عن أصدقاء جدد، ولأن يُبحث عنه أيضا.
لطالما تبعَتهُ اختياراته الصَّائبة امتداد سنين حياته الغنيّة، كان متعطشًا لعالمٍ من الحوار والتَّواصل البنّاء. كم كان جميلا لو أنّنا التقينا منذ سنواتٍ في أحد المسارح المُفضّلة لديه مثلا، والتي زرتها من فترة وجيزة.
ليس فقط قدرته على التّواصل بل الطّريقة التي يتحدّث بها وأسلوبه في النّقاش أدهشني لدرجة أنّني، وخلال السنوات القليلة التي تكرّر لقاؤنا فيها إن كان في تشيلي أو في فرنسا، شعرت كما لو كان صديق الشباب ذاك الذي بوسع المرء أن يتقاسم معه هواجس الحياة بكلّ ما فيها من شكٍّ وخوف وأمل.
اللقاء الأوّل بيننا، والذي كان بدعوةٍ منه لزيارة منزله الكائن في الجّزيرة السَّوداء عام /ألف وتسعمائة وسبعين/، لم يكن مجرَّد لقاءٍ أوّل، فقد كان كلٌّ منَّا مُطّلعٌ على أعمال الآخر ومعجبٌ بها كذلك، كما كنّا قد اختلفنا حول نقاطٍ معيّنة نتيجة تمسّكنا بصواب وجهات نظرنا والتي ميَّزت كلاً منّا عند طرحنا لها بصراحة. والحقيقة أنّنا عشنا جميع المراحل في ذلك اللقاء، وخرجنا منه أصدقاء الماضي والمستقبل في آنٍ معًا.
في ذلك اللقاء أيضًا تلقَّى الشّاب الأربعينيّ الذي كنت كتاب “مسكن في الأرض” لنيرودا، الصادر عام /ألف وتسعمائة وثلاثة وخمسون/، كصفعة من نورٍ هزّت كيانه، إذ أن ذلك العمل كان موجة سخاءٍ عارمةٍ قلبت مفاهيم الشّعر في أمريكا اللاتينية رأسًا على عقب.
ولهذا، ورغم قصر أمد صداقتنا إلا أنَّها كانت عظيمةً وغنيّة، قلائلٌ هم من يحظون بمثل هذا النوع من الصداقات، إذ أنّ النظرة كانت كافيةً لكي تُفجّر القصائد فاتحةً أمامنا أبواب التَّواصل اللانهائيَّة والتي كنَّا نجد مفاتيحها من دون اتفاقٍ مسبق، وخارج جميع تلك القواعد البديهيّة والتّساؤلات التي تتفاعل ضمنها مراحل الحوار المدنيّ، فبضع كلماتٍ كفيلةٌ بتوضيح منطلقاتنا الفكريّة وتحديد خياراتنا واهتماماتنا.
في بعض الأحيان كانت مبادرةً صغيرةً أو مجرَّد نكتة أو حتى لعبة تخمين الكلمات يمكن لها أن تضعنا مباشرةً في خضمّ نقاشٍ محتّد حول هنري جيمس مثلاً، أو سيرخي آيزنشتاين أو بيسينتي ويدبرو. وسط حلقة من المعجبين ينصتون باهتمامٍ إلى صوته السّحري الهادئ بينما يلقي أحد قصائده الكلاسيكيَّة القصيرة.
وبعد انصراف الجميع عندما نبقى وحيدين، كان نيرودا يعيد ترتيب أفكاره القيصرية ويفنّدها بشكلٍ جيّدٍ وبذوق ملموسٍ يملكه اتجاه الحوار ليبدأ بالنقاش متناوبًا بين الكلام والاستماع في تجانسٍ متقن. وخلال وقتٍ قياسيّ صرت أتقن التَّعرف على دلالات نظراته وابتساماته التي غالبا ما دلّت على رأيه، إن كان بالرّفض أم الاستحسان.
عندما طلب إلي غاجيمارد كتابة مقدمةٍ للتّرجمة الفرنسية لكتاب نيرودا “إقامة على الأرض”، قمت بكتابتها على شكل رسالةٍ مفتوحة ثم أرسلتها إلى نيرودا. الذي أكدَّ على رفضه الدَّائم لفكرة تصنيف قصائده في هذا الكتاب على أنّهامرحلة متفرّدة ومميّزة عن أعماله التي سبقت القفزة الكبرى، إن صحَّ القول، التي أحدثها كتابه “أغني للجنرال”. إلا أنه وبعد قراءته لنص المقدّمة، والذي كرّرت فيه اعجابي بمجموعته تلك، وما يزال يزداد حتى هذا اليوم، خصّص لي نظرةً وابتسامةً منحاني المقياس الدّقيق لمدى سعادته الخفيّة، ووفائه لذلك العمل، الذي تسبّب مسار الأحداث التاريخيّة بالتّنكر له واهماله بشكلٍ واضح.
أعتقد أنّنا أدركنا في ذلك اليوم أكثر من أيّ وقت مضى عمق صداقتنا وقوّتها.
لحظات الصّمت تلك المكتنزة بالفطنة والذكاء ما تزال بالنسبة لي أعظم جائزة أتلقّاها في حياتي على هذه الأرض.
الشّخص الوحيد الذي استطعت وإياه أن ندخل بتجربة تواصل مماثلة، كان خوسيه ليزاما ليما، حيث غالبا وبعد كلّ سؤال، كان الصّمت كما النظرات أيضا تملأ الفراغات الفكريّة بصور ناعمة لم يكن بإمكان الكلام تفسيرها من زوايا معينة.
ولأجل هذا لم يشّكل غياب نيرودا حدثًا تراجيديًّا بالنّسبة لي. فإن تكلّمنا على صعيد التأثير، شخصٌ استطاع أن يملئ العالم كما فعل هو لن يغيب عن الجلسات الحميميّة للذّكريات، ولا عن المؤتمرات وإجتماعات ساعات الذّروة.
لا يؤلمني موته، كبيرةٌ وعميقةٌ كانت سعادتي بالتّعرف عليه في بيته الكبير، وأعني قلوب محبيّه، الذي هو بيتي أيضا.
كلّما شربت نخبًا، أو أحببّت، أو تمتّعت برؤية مشهدٍ جميل، أتذكّر عينيه الواسعتين النّاعستين وتعود إليّ ذاكرة تلك الأيّام التي قضيناها معًا فيحضر شعره قافزًا من بين أفكاري المتلاطمة ليجيبني ويرافقني.
وإلى هذه اللحظة لم يتغيّر شيء، ولن يتغيّر.
هنا في هذه السّطور قد ذكرت كلّ شيء في الزّمان والمكان المناسبين.
1979
* * *
عن خوليو كورتاثار
كاتبٌ وشاعرٌ ومترجمٌ أرجنتينيّ، ولد عام ١٩١٤ في بروسيلا- بلجيكا، ويعرف بكونه أحد أشهر أدباء الحداثة في أمريكا اللاتينية، حيث كسر القوالب الشّائعة عبر اتّباع سردٍ خارجٍ عن المألوف، حيث تتطلّب الشخصيّات عمقًا فلسفيّا وتحكّمًا ذاتيًّا لم يكن مطروحًا في السّابق.
انتقل عام ١٩٥١ إلى باريس وعمل كمترجم في منظّمة اليونسكو العالميّة ممّا ساعده على الحصول على إقامة دائمة في باريس.
خفّة الظّل وحبُّ اللهو صفتين صبغتا أعمال الكاتب، وظهر ذلك في كتابه /قصة الكرونوبيو والفاما/ وهي أسماء لمخلوقات من اختراع الكاتب. من أشهر أعماله /راجويلا- اثنتين وستين طريقة للحبّ- مدار يوم في ثمانين عالم/ من بين أخرى. توفي في باريس عن عمرٍ يناهز السّبعين إثر إصابته بمرض اللوكيميا في فيبراير/ آذار من عام ١٩٨٤ ورد هذا النص بعنوان” عن إحدى الصداقات” في كتاب صدر بعد وفاة الكاتب عملت زوجته السّابقة أورورا بيرنارديز وصديقه المقرّب كارلس ألافاريس على تدقيقه ونشره عام ٢٠٠٩ ويحوي الكتّاب نصوصًا تُنشر لأوّل مرة إلى جانب أخرى مأخوذة من أعماله السّابقة مثل /شخص يدعى لوكاس- كتاب مانويل/ بالإضافة إلى العديد من المقالات الأدبيّة المنشورة والخطابات وبعض القصائد.