Published
2 mois agoon
By
لبنى جريدىمرّت السيارة التي تحمل نعش السيناريست والروائي الفلسطيني ــ السوري حسن سامي يوسف من مخيم اليرموك. جال جثمانه في المخيم الذي استقر وعائلته فيه بعد ترحال. فمن فلسطين خرج الطفل ذو الأعوام الثلاثة من قريته لوبيا في قضاء طبريا بعد النكبة عام 1948، متجهاً نحو مخيم ببعلبك في لبنان، ومن بعدها إلى دمشق وبالتحديد إلى المخيم الذي دفن فيه ويقع وسط دمشق، ليستقر به الحال هناك، باستثناء سنوات دراسته في المعهد العالي للسينما في موسكو قسم السيناريو، إذ كان من أوائل الموفدين لدراسة السيناريو أكاديمياً.
عاد حسن سامي يوسف إلى المدينة التي ستصبح بطلة أعماله، لا سيما تلك التي ألفها بالشراكة مع رفيق دربه الكاتب والصحافي نجيب نصير. في عملهما الثاني “أسرار المدينة” (إخراج هشام شربتجي، 2000) التفت الاثنان إلى الطبقات الفقيرة، إذ راحا يعرضان حياة المهمشين في فضاءاتهم المكانية، في سردٍ بصري يمكّن المشاهد من التلصص على عالم خاص بالفئات الرثّة، معتمدَين على الكاميرا أداة سرد تترجم نصوصهما إلى الشاشة الصغيرة. حمل الكاتبان موقفاً من المجتمع ضمّناه في الخطاب الدرامي، فهما حاضران غائبان، وأحياناً متخفيان وراء الشخصيات فيتمثلانها ويتماهيان معها وينتقدان المنظومة السياسية التي جعلت هذا العالم متشظياً إلى طبقات لا بل رسخت الطبقات وزادت بؤس المهمشين وسطوة أصحاب المال.
بعد “أسرار المدينة” غاص الاثنان أكثر فأكثر في تشريحهما الطبقي لدمشق، فاستعرضا في مسلسل أيامنا الحلوة (إخراج هشام شربتجي، 2003) تناقضات المدينة الطبقية والاجتماعية والثقافية، لا بل تناقضها المعماري وعلاقته بالجوانب السيسيولوجية والاقتصادية، فدمشق حالها حال العواصم والمدن الكبيرة، ليست مدينة ذات هوية واحدة بل خليط اجتماعي متنافر ومتنوع ومتآلف في الوقت نفسه، وهذا ما تُصوره أعمال يوسف ونصير.
هذه النزعة نحو التشريح الأفقي للمجتمع، كانت جزءاً من المشروع الفني للكاتب الراحل حسن سامي يوسف وكان لا بدّ أن يصل إلى الغوص في القاع وبالتحديد في عشوائيات المدينة وأحزمة بؤسها، وعرض هذا البؤس عرضاً مرآتياً، لا يشوبه زيف أو افتعال. هذا الأمر تبلور بالكامل مع مسلسل “الانتظار”، العمل الذي خلّد اسم الكاتبين لما فيه من واقعية تبتعد عن الفجاجة وتقترب من شجون الحياة اليومية وتراجيديتها الاعتيادية.
يعرف من يسكن عشوائيات دمشق أجواءها ومناخاتها وطبيعة فضاءاتها بدقة، كتلها الإسمنتية المتراصة، لونها الرمادي السائد، الذي يتخلله خضار شحيح لشجيرات مبعثرة زرعها السكان، ربما رغبة بتجميل بؤس المكان. ويرى من ينظر إلى أفق المدينة، لوناً أحمر طفيفاً يزين أسطحة المنازل، التي بناها الفقراء خلسةً، هو لون خزانات المياه البلاستيكية، بينما تغزو الصورةَ خطوط منحنية سوداء، متشابكة، هي أسلاك الكهرباء التي قد تشتعل في أي لحظة. حتى سماء المدينة تبدو مقسمة إلى مربعات صغيرة تملأ بعضها “كشات الحمام”.
بهذه المشاهد يفتتح المخرج الليث حجو مسلسل الانتظار (2006) ليذهب فيما بعد من العام إلى الخاص في تقديمه الشخصيات التي رسمها المؤلفان بدقة، أبطال القاع، المهمشون، المحرومون، “سواقط الطبقات” على حد وصف الناقد المصري الراحل سمير فريد، ممن يعيشون خارج الطبقات أو كما يسميهم عالم الاجتماع اللبناني مصطفى حجازي “أبطال الظل”، كلهم من أولئك المهمشين سوسيو ــ اقتصادياً. يقول حجازي إن شباب الظل ولدوا كي يخسروا فهم لا يدخلون مساراً مهنياً متيناً يؤهلهم لمهنة تصنع تأهيلاً اجتماعياً، وهذا ما نراه جلياً في أعمال يوسف ونصير “أيامنا الحلوة”، و”أسرار المدينة”، و”الانتظار”، و”فوضى” (2018).
يفرض التشوه المعماري الذي نراه في المدينة وفي دراما يوسف ونصير على حدٍ سواء، شكلاً من العلاقات الاجتماعية، ويفرز نمطاً من السرديات، التي لم تكن بحاجة سوى إلى قاصٍ جيّد وملاحظ دقيق لنقلها إلى الشاشة الصغيرة، وهذا هو الدور الذي لعبه كل من حسن سامي يوسف ونجيب نصير.
يقول الكاتبان في حوارٍ جمعهما إنهما التقيا على همٍّ مشترك، ويقول يوسف “لست أرى للفن وظيفة أسمى من إيقاظ الإنسان على إنسانيته”. دخل الكاتبان في الدراما التي قدماها بيوت العشوائيات وعالم الفقر المدقع معبرَين عن اشتباك العلاقات الاجتماعية والبنية الطبقية في هذا المجتمع الهجين الذي لا تجمعه هوية مناطقية أو ثقافية، بل إن الهوية الجامعة لسكانه، على الأغلب، هي الهوية الطبقية. ففي هذا الفضاء، السارق النبيل تجمعه علاقة طيبة مع الشرطي، والصحافي يحترم اللص الروبن هودي، ولا مكان للاحتقار لzأن الجميع “معتّرين” وإن كان للاحتقار مكان فهو آتٍ من شخصية برجوازية شاءت الأقدار أن تسكن
هذا الحي الحقير، كما هي الحال في شخصية سميرة (تلعب دورها يارا صبري) في مسلسل الانتظار.
غالباً ما تقع عشوائيات دمشق على تخوم مع الأحياء الفارهة الأرستقراطية، هذه المناطق التي تضم خليطاً من مختلف الطبقات والمستويات ولكل منها عالمه، ولكن تفاعل هذه الشخصيات مع فضائها وهويتها خارج هذه الأحياء قد يعطي للقصة بعداً آخر.
في مسلسل الانتظار الذي ألفه الثنائي يوسف ــ نصير يقول عبود بطل العشوائيات الأبرز في الدراما السورية (أدى دوره ببراعة الممثل تيم حسن)، حين يلتقي مصادفةً بأفراد من سكان حيه في وسط المدينة “شو بدك ياهن يساووا يعني يضلوا بالحارة محسوبة عليهم عايشين بالشام” هذه العبارة المقتطعة من حوار بين عبود والصحافي، تعبّر عن علاقة سكان العشوائيات بالمدينة، فالمجتمع الذي يقارب الغيتو الطبقي والمناطقي لأولئك الوافدين من قراهم إلى دمشق لا ينتمي إلى الريف ولا إلى المدينة ويحاول أن يلتصق قدر الإمكان بالمدن.
You must be logged in to post a comment Login