Published
4 mois agoon
By
أحلام كرارتعيد أعمال الشغب التي شهدتها مدن وبلدات في المملكة المتحدة أخيراً، بعد مقتل ثلاثة أطفال طعناً في مدرسة للرقص في 29 يوليو/تموز الماضي، شمال غربي البلاد، قضية اليمين البريطاني المتطرف وحركاته إلى الواجهة، وتطرح أسئلة حول طريقة التعامل معه، وسط دعوات لتجريم الحركات التي تقف وراء أعمال الشغب التي تستهدف المواطنين والممتلكات العامة، خصوصاً استهداف شرائح محددة من المجتمع مثل المسلمين وأصحاب البشرة السوداء واللاجئين والمهاجرين، ما وصل إلى حدّ المطالبة بتصنيف هذه الحركات اليمينية حركات إرهابية.
المشاهد القادمة من الشوارع البريطانية، خلال الأيام الأخيرة الماضية، أثارت الغضب والخوف والصدمة عند الكثيرين، من ممارسات أنصار اليمين المتطرف، والتي كان من ضمنها الاعتداء على مواطنين غير بيض، وإقامة حواجز لتفقد لون بشرة السائق، واعتداءات على مساجد، ومحاولة إحراق أنزال للاجئين. كما تضمنت تلك الممارسات تكسير محال تجارية ونوافذ منازل وسيارات، وأعمال نهب في بعض المواقع. ولم تخلُ تجمعات أنصار اليمين البريطاني المتطرف من مشاهد تهدف إلى التحريض على المسلمين والسخرية من عقيدتهم بهدف الاستفزاز، كذلك جلب أطفال من أبناء مناصري اليمين المتطرف لهذه التجمعات، والذين كانوا يهتفون فيها لترحيل اللاجئين وهتافات عنصرية أخرى بغيضة.
أقام المتظاهرون المتطرفون حواجز لتفقد لون بشرة السائق، ونفّذوا
اعتداءات على مساجد، وحاولوا إحراق أنزال للاجئين
وعكست حادثة القتل في بلدة ساوث بورت، التي قام بها مراهق بالهجوم بالسكين على ورشة أطفال، ما أدى إلى مقتل ثلاث فتيات، كيف تُغذي الأخبار الكاذبة وانتشارها تحركات اليمين البريطاني المتطرف الذي ادعى مناصروه أن القاتل مسلم لاجئ، ليتضح لاحقا بعد كشف اسمه أن ذلك غير صحيح. ومع ذلك، استغل اليمين المتطرف الحادثة كفرصة للخروج إلى الشوارع بأسلوب عنيف.
هذه ليست المرة الأولى التي يخرج فيها أنصار اليمين المتطرف البريطاني إلى الشوارع ويقترفون أعمال شغب، إذ شهدت المملكة المتحدة منذ العقد الماضي، حضوراً للحركات اليمينية المتطرفة والفاشية داخل المجتمع البريطاني، وفي حقب سياسية مختلفة.
وإن كان الحديث يتركز اليوم على “رابطة الدفاع الإنكليزية”، الحركة التي تُتهم بكونها وجه اليمين المتطرف في المملكة المتحدة خلال السنوات الأخيرة، فالرابطة ليست إلا امتداداً لحركات عنصرية متنوعة سابقة شهدها المجتمع البريطاني، بدءاً بظهور الفاشية في أوروبا خلال سنوات ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي. كان أول أشكال تنظّم قوى اليمين الفاشي على شكل تنظيمات مُمأسسة، مع الاتحاد البريطاني للفاشيين، الذي تأسس عام 1932 بقيادة أوزوالد موزلي. تأثر الاتحاد الفاشي حينها بالنازية الألمانية والفاشية الإيطالية، لكن الحركة تراجعت بشكل كبير بعد بداية الحرب العالمية الثانية، ووقوف بريطانيا والشعب البريطاني في محور معادٍ لألمانيا وإيطاليا.
بعد ذلك، وخلال سنوات الستينيات والسبعينيات، تأسس الحزب الوطني البريطاني عام 1960، الذي لاقى رواجاً بشكل كبير خلال سنوات السبعينيات، مركّزاً في خطابه على قضايا مثل الهجرة والعرق، وحاول توسيع نفوذه عبر الخطاب العنصري. كذلك تأسست الجبهة الوطنية عام 1967، وكانت واحدة من أبرز الحركات اليمينية المتطرفة في السبعينيات، وركّزت على معارضة الهجرة وتعزيز القومية البيضاء.
تراجعت شعبية الجبهة الوطنية في الثمانينيات والتسعينيات، بينما استمر الحزب الوطني البريطاني في الوجود ومحاولة الحصول على دعم انتخابي، وحقق نجاحات في الانتخابات المحلية في بعض الأحيان. وشهدت تلك الفترة أعمال عنف وعنصرية من عناصر اليمين المتطرف، الأمر الذي لقي ردود فعل من الحكومة والمجتمع المحلي. أما في السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، فقد حقّق الحزب الوطني البريطاني بعض النجاحات الانتخابية، بما في ذلك الحصول على مقاعد في البرلمان الأوروبي قبل خروج بريطانيا من الاتحاد (بريكست). وفي أعقاب الهجمات الإجرامية التي استهدفت لندن عام 2005، ازدادت التوترات العنصرية ونشاطات اليمين البريطاني المتطرف الذي استغل هذه الأحداث التي ارتكبها مسلمون متطرفون بهدف تعزيز خطابه المعادي للإسلام.
وفي العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، تراجع حضور الحزب الوطني البريطاني شعبياً بشكل كبير، فيما تأسست مجموعات جديدة، منها مجموعة “بريطانيا أولاً” عام 2001، وهي جماعة يمينية متطرفة ركّزت على معاداة الإسلام والهجرة، واستخدمت وسائل التواصل الاجتماعي بشكل فعّال لنشر رسائلها. كما بدأ يبرز اسم رابطة الدفاع الإنكليزية بشكل أكبر، وهي حركة تأسست عام 2009 في مدينة لوتن شمال لندن، وركزت على كراهية الإسلام بحجة حماية “الهوية البريطانية”. نظمت العديد من التظاهرات المثيرة للجدل والتي أدّت إلى مواجهات مع الشرطة والمتظاهرين المضادين.
نظّمت الرابطة العديد من التظاهرات في مختلف المدن البريطانية، وغالباً ما كانت تظاهراتها تتسم بتجمعات لأنصار اليمين المتطرف لتتحول إلى أعمال عنف ومواجهات مع الشرطة ومعارضي اليمين المتطرف من حركات مناهضة للعنصرية. كان من بين مؤسسيها وقادتها البارزين تومي روبنسون (اسمه الحقيقي ستيفن ياكسلي ــ لينون)، الذي استقال من منصبه في عام 2013 بعدما أعرب عن مخاوفه بشأن الاتجاه العنيف الذي اتخذته الجماعة بحسب ادعائه. وتعرّضت الرابطة لانتقادات واسعة من قبل منظمات حقوق الإنسان، والجهات الحكومية، والجماعات الدينية، إذ اتُهمت بأنها تثير الكراهية العرقية والدينية وأنشطتها تؤدي إلى انقسامات مجتمعية. ورغم نشاطاتها القوية في السنوات الأولى، شهدت الرابطة تراجعاً في تأثيرها ونشاطاتها في السنوات الأخيرة، خصوصاً بعد استقالة تومي روبنسون ومواجهة العديد من أعضائها مشاكل قانونية.
إلا أن اسم الرابطة عاد إلى الواجهة قبل حادثة الطعن في ساوث بورت، حيث نُظّمت تظاهرة لأنصار اليمين المتطرف في العاصمة لندن نهاية شهر يوليو الماضي شارك فيها الآلاف. كما يرى العديد من المراقبين أن الانتخابات البرلمانية الأخيرة لمجلس العموم البريطاني جلبت ممثلين عن تيار اليمين المتطرف والشعبوي تحت قبّة مجلس العموم بخمسة نواب يمثلون حزب حركة الإصلاح بقيادة نايجل فاراج، والذي أصبح القوة الثالثة في البرلمان بعد حزبي العمّال والمحافظين ونال 14% من أصوات الناخبين، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ بريطانيا.
عاد اسم تومي روبنسون المعروف بآرائه المعادية للمسلمين إلى الواجهة مجدداً قبل حادثة ساوث بورت، أو ستيفن ياكسلي ــ لينون، البالغ من العمر 42 عاماً، وينشط بشكل فعّال على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يستخدم هذه المنصات لنشر آرائه والتواصل مع مؤيديه. تمّت إزالة حساباته من بعض المنصات مثل “إكس” و”فيسبوك” بسبب انتهاكات تتعلق بخطاب الكراهية، إلا أن حسابه أعيد على “إكس” بعد نحو سنة من شراء الملياردير أيلون ماسك لـ”تويتر”، وهو يستخدم حسابه هذه الأيام لحشد مناصريه ونشر خطاباته الناقدة بشدة لسياسات الحكومة المتعلقة بالتعددية الثقافية والهجرة، ويعتبر نفسه مدافعاً عن الهوية البريطانية والحريات المدنية. يواجه روبنسون مشاكل قانونية، وهو حالياً يقيم في قبرص، وسيتم اعتقاله في حال عودته للمملكة المتحدة.
تثير تحركات اليمين البريطاني المتطرف الحالية مخاوف حقيقية لدى المجتمع البريطاني، خصوصاً عند الأقليات المختلفة والمسلمين على وجه التحديد. كما أن الحكومة المنتخبة الجديدة بقيادة حزب العمّال، لم تتوقع أن تواجه هذا الملف في أيامها الأولى، وهو ما قد يضع تحديات أمام إنجاز الوعود والمشاريع التي أطلقها رئيس الحكومة كير ستارمر، الأمر الذي يعكس الموقف الواضح لستارمر من إدانة الاعتداءات واتخاذ إجراءات لملاحقة مثيري الشغب منذ اليوم الأول. إلا إنه وفي الوقت نفسه، يتعرّض لانتقادات لعدم أخذ إجراءات كافية لوأد هذه التحركات قبل توسعها بشكل أكبر واستمرارها لفترة أطول.
ويرى العديد من السياسيين البريطانيين المحسوبين على اليسار، أن مشكلة اليمين البريطاني المتطرف ليست فقط ناتجة عن الأحداث الأخيرة، إنما بعد سنوات عديدة من التطبيع مع خطاب معاداة المسلمين واللاجئين من قبل الطبقة السياسية وخلال الحملات الانتخابية، الأمر الذي يتطلب معالجة جذرية أعمق.
وعكست آخر استطلاعات الرأي حول أعمال الشغب والاضطرابات الحالية، وقوف غالبية المجتمع البريطاني ضدها. فبحسب استطلاع أجراه معهد يوغوف ونُشرت نتائجه يوم الثلاثاء في 6 أغسطس/آب الحالي، قال 85% من البريطانيين إنهم يعارضون الاضطرابات في الاحتجاجات الأخيرة، فيما قال 7% فقط إنهم يؤيدون العنف. حتى الاحتجاجات الأوسع نطاقاً لا تحظى إلا بدعم واحد من كل ثلاثة بريطانيين (34%)، مع معارضة أكثر من النصف (54%). وأظهر الاستطلاع المعارضة المرتفعة لأعمال الشغب، حتى بين مصوتي حركة الإصلاح اليميني الشعبوي، وكانوا هم المجموعة الوحيدة التي أظهرت مستويات من الدعم، بنسبة 21%. لكن هذه أقلية واضحة، إذ يعارض ثلاثة أرباع الناخبين الإصلاحيين (76%) أعمال الشغب.
من المبكر معرفة مدى قدرة تمدد وتوسع حراك اليمين المتطرف مع دخول الاضطرابات أسبوعها الثاني، وخروج حركات مناهضة للعنصرية للتصدي لعناصر اليمين المتطرف. لكن الأيام القليلة المقبلة ستكشف عن مدى نجاح الحكومة في التعامل مع هذا الملف، خصوصاً بعد إعلان رئيس الحكومة عن إعداد “جيش من الضباط” لملاحقة مثيري الشغب، وإعلان وزيرة الداخلية إيفيت كوبر، ووزيرة العدل هايدي ألكسندر، عن أن السجون جاهزة لاستقبال البلطجية، وسط مخاوف أن تؤدي أعمال الشغب إلى إلحاق انقسامات مجتمعية وأضرار وكارثة حقيقية، كما كاد أن يحصل في محاولة إحراق الفندق الذي يقيم فيه لاجئون في مدينة روثرهام يوم السبت الماضي. على ضوء ذلك كلّه، تعلو أصوات تدعو إلى تصنيف حركات اليمين المتطرف البريطاني وعناصرها حركات إرهابية والتعامل معها على هذا النحو. وكان أبرز من صرّح بذلك، رئيس شرطة مكافحة الإرهاب السابق نيل باسو، معتبراً أن أعمال الشغب “تجاوزت الخط إلى الإرهاب”.